خطب ومحاضرات : خطب الجمعة
القرضاوي: عائشة سليلة البيت الثاني بعد بيت النبوة
الدوحة – موقع القرضاوي / 10-6-2007
واصل فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في خطبة الجمعة هذا الأسبوع الحديث عن أمهات المؤمنين، وبعد أن اختار في الجمعة الماضية أولى أمهات المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد تحدث هذا الأسبوع عن السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديقة بنت الصديق؛ كما تطرق فضيلته في الخطبة الثانية إلى ذكرى حرب يونيو 1967، معتبرا أنها كانت نكبة ثانية للعرب والمسلمين ولم تكن مجرد نكسة أو هزيمة.
ولفت العلامة القرضاوي إلى أن السيدة عائشة بنت أبي بكر التي كانت الوحيدة التي تزوجها النبي بكرا، بينما زوجاته الأخريات كن ثيبات لهن أزواج قبله، مشيرا إلى أنها ولدت في الإسلام، بعد بعثة النبي بأربع أو خمس سنوات، ولدت في بيت من أعظم بيوت المسلمين، هو البيت الثاني بعد بيت النبوة، بيت أبي بكر وتلقنت الإسلام من أبيها أبي بكر، أخذت القرآن من فم أبي بكر الذي أخذه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت بحسن ذكائها ووعيها تلتقط كل شيء، نشأت نشأة إيمانية ربانية، وقصت علينا قصصا لم يروها غيرها، مثل قصة الهجرة، وكيف جاء النبي إلى أبي بكر ليخبره بأن الله أذن له بالهجرة.
وأضاف: خطبها النبي قبل الهجرة، لكنه لم يدخل بها إلا بعد الهجرة، حينما بلغت تسع سنوات، وكان جسمها ناميا، أرادت خولة بنت حكيم بعد موت خديجة أن تعرض على النبي أن يتزوج وقد بقي مدة بلا امرأة، فقالت له: ألا تتزوج يا رسول الله؟ قال: ومن؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيباً، قال: من؟ ومن؟ قالت: الثيب سودة بنت زمعة آمنت بك وصدقتك، والبكر بنت أحب الناس إليك أبي بكر؟ فقال: اذكريني عندهما، ففعلت ووجدت ترحيبا، لكن النبي عجل بالزواج من سودة، وكانت امرأة كبيرة السن، لكنها من أهل الإيمان.. وخطب عائشة.
تسع وتسع
وأشار العلامة القرضاوي إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بالسيدة عائشة في السنة الثانية للهجرة، وكانت قد أكملت تسع سنوات وبقيت مع النبي صلى الله عليه وسلم أقل من تسع سنوات، ولله حكمة في ذلك، أن تكون هي صغرى نسائه، وعندها قدرة على الالتقاط والاستيعاب، وتستطيع أن تروي بعد ذلك من حياة النبي، هذه السنوات وعتها عائشة وروتها للأمة بعد ذلك، وكان ما ترويه لا يشاركها أحد فيه، وهي من المكثرات عن النبي، على حين بعض الصحابة لم يرو إلا الآحاد، فمن الصحابة سبعة من المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية ويقصدون بالمكثرين الذين روى أحدهم أكثر من ألف حديث عن النبي، ثلاثة من المهاجرين وثلاثة من الأنصار، ومن غيرهم أبو هريرة أكثر الناس حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأضاف: ظلت بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى سنة 57 أو 58 من الهجرة تروي عن رسول الله وتفتي في دين الله، فكانت من المفتيات، فكأن لله حكمة أن يتزوج النبي هذه الفتاة الصغيرة.. فقد دخل بها النبي وهي فتاة أشبه أن تكون طفلة، قصت علينا قصة زواجها من رسول الله.. قالت: كنت ألعب على أرجوحة مع صويحباتي.. كانت تحب اللعب، وفوجئت بأمها تصرخ فيها فأخذتها إلى نسوة من الأنصار، فأصلحن من هيئتها وقلن لها: على بركة الله، وعلى خير، ففهمت أنها ستتزوج، وبعد أن أصلحن من شأنها دخل عليهن رسول الله، فباركن له وتركنه مع زوجه وفارقنها، ودخل بها الرسول وعاملها معاملة تليق بسنها، كانت فتاة صغيرة، كان يسرب إليها صويحباتها ليلعبن معها، وكن إذا دخل النبي وهن يلعبن بالبنات «العرائس والدمى»، انقمعن وخفن.. كان النبي يراعي هذا، يريها الحبشة وهن يرقصن بالحراب في العيد، ويقول: أتشتهين أن تنظري؟ تقول نعم، وتنظر من وراء كتفه إلى الحبشة حتى تمل هي.. كان يرعى سنها وقد أصبحت أحب أزواجه إليه لذكائها وفصاحتها ومعرفتها بأنساب وأيام العرب.
شديدة الغيرة
وأضاف: بعد مدة من الزمن نامت فلم تشعر إلا وصوت يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وقد أوشك الصباح على الشروق فنظرت فإذا هو صفوان السلمى، وكان يراها قبل الحجاب وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالت والله ما سمعت منه كلمة غير الاسترجاع، إنا لله وإنا إليه راجعون، فأناخ لها راحلته وسحب الناقة وظل حتى وصل الجيش في الضحى، فإذا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النفاق قال: عائشة وصفوان؟ والله ما نجا منها ولا نجت منه وظل يشيع هذا القول في المدينة، ولاك ذلك بعض الصحابة مثل حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة الذي كان ابن خالة أبي بكر الذي كان ينفق عليه.. لكن عائشة لا تعرف عن الأمر شيئا، عادت مريضة، ولا يخاطبها الرسول، والحديث ينتشر في المدينة، حتى خرجت يوماً مع أم مسطح لقضاء حاجتها في الخلاء، فعثرت أم مسطح وقالت تعس مسطح، فقالت عائشة كيف تقولين ذلك عن رجل شهد بدراً؟ قالت إنك لا تعرفين شيئاً، قالت وماذا أعرف؟ قالت: إن مسطحاً مع أصحاب له قالوا كذا وكذا.
تبرئة من السماء
وأشار العلامة القرضاوي إلى أن عائشة فوجئت بهذا فبكت وعادت إلى النبي وعرفت سر إعراضه عنها، فقالت يا رسول الله استأذنك أن أذهب إلى بيت أبوي، فأذن لها، تحدثت مع أمها ماذا يجري؟ ماذا يقول الناس؟ فقالت أمها ما كانت امرأة وضيئة ولها ضرائر إلا وأكثر الناس الحديث عنها.. ثم عرفت بالقصة وبقيت في بيت أبيها، ثم جاء النبي وقال يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن الله يتوب على من تاب، وإن كنت صادقة فإن الله سيبرئك، فقالت لو كنت صادقة وقلت إني بريئة، فلن تصدقوني لما سمعتم من كلام الناس، ولكني أدع الأمر لله عز وجل وأقول ما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، وسلمت أمرها لله.
وأضاف فضيلته: وما هي حتى جاء الخبر من السماء بتبرئة عائشة رضي الله عنها، عشر آيات من سورة النور تبرئ عائشة من هذا الإثم المختلق على أطهر امرأة، لرسول الله، ابنة أبي بكر، وعلى رجل طاهر مطهر من أصحاب النبي لم يعرف عنه شيء من الخلل طوال حياته، جاءت الآيات: «إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم. بل هو خير لكم. لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم، والذي تولى كبره منكم له عذاب عظيم..» وقالت ما كنت أحسب أن ينزل فيَّ وحي وقرآن يتلى، وإن كنت أعرف أن الله سيبرئني، قالت لها أمها: قومي إلى رسول الله فاحمديه، قالت والله ما أقوم إليه إنما أحمد الله عز وجل الذي برأني.
ذكرى أليمة
في الخطبة الثانية بعد جلسة الاستراحة تطرق العلامة القرضاوي إلى ذكرى حرب يونيو 1967 ، قائلا: تمر بنا في هذه الأيام ذكرى أليمة، حزينة، هي ذكرى الخامس من يونيو 1967م، لعل الكثيرين ممن أراهم أمامي لم يكونوا قد ولدوا أيام حدوثها، سميتها في أحد كتبي النكبة الثانية، وسموها النكسة أي إنهم انتصروا قبلها، وهذه ليست حقيقة فما كسبوا حرباً قبل ذلك.. فأول حرب كسبها العرب كانت العاشر من رمضان 1973م، انتصروا انتصاراً جزئياً على قدر إيمانهم في هذا الوقت، النكبة الأولى 1948م حينما قامت إسرائيل على أكثر مما أعطاها قرار التقسيم الذي رفضه العرب.
وأضاف: شرد أهل فلسطين بعد المجازر الهائلة التي ألقت الرعب في قلوب الفلسطينيين، دير ياسين وغيرها، حينما بقروا بطون الحوامل وظلوا يتضاحكون، وامتلأت قلوب الناس رعباً، النكبة الثانية هي احتلال كل فلسطين: غزة والضفة الغربية، والقدس الشريف على رأس الضفة والجولان وسيناء وجزء من لبنان ومن الأردن في ضربة واحدة أخذت إسرائيل هذا كله.
وتابع مضيفا: يسمونها حرب الأيام الستة، والحقيقة أنها حرب الساعات الست، ضرب الطيران المصري في مواقعه، وأصبحت الجيوش البرية في سيناء التي قال بعضهم إنها تسد عين الشمس أصبحت بلا غطاء مكشوفة؛ لذلك صدرت الأوامر بالانسحاب بلا انتظام حتى إن الجنود تركوا الدبابات كما هي، كان كل منهم يقول النجاة النجاة فتركوا الأسلحة كما هي غنيمة باردة للعدو.. كانت مصيبة ونكبة عظمى، ومن يومها إلى يومنا هذا كل ما فعلته إسرائيل أن حاولت أن تخرج مصر من المعركة فصالحتها على الرحيل من سيناء لتكسب من وراء ذلك إخراج أكبر قوة ضاربة من المعركة، وهذا كسب كبير لها.. لا مانع أن تتنازل عن سيناء التي احتلتها وتكون بعد ذلك مصر وسيطاً كما نراها الآن تتوسط بين الفلسطينيين وغيرهم، إنما ليست شريكا إستراتيجياً.
وتساءل فضيلته: ماذا صنع العرب وماذا صنع المسلمون؟ قدم الفلسطينيون الشهداء، وقدموا المعوقين والمعوقات، وقدموا البيوت المهدمة والأشجار المقلوعة، والآلاف من الضحايا والسجناء والمعتقلين ولم نقدم شيئاً. وأكد أنه مطلوب من العرب مسلميهم ومسيحييهم: كل المسلمين عربهم وعجمهم، كل الأشراف والأحرار في العالم أن يقفوا مع الحق مع العدل في وجه الباطل، الظالم.. إن الذي جرَّأ هؤلاء أن يفعلوا بنا الأفاعيل ما يرونه من انقسام فلسطيني، ومن عجز عربي، وما يرونه من وهن إسلامي، ومن تخاذل أوروبي وتواطؤ، ومن غياب عالمي، مع العدوان الصهيوني، ومع التأييد الأمريكي المستمر في كل شيء..
كل هذا جرأهم لفعل هذا، لكن لا يجوز لنا نحن العرب ونحن المسلمين إلا أن نقف بجوار إخوتنا بالأنفس والنفائس وبالغالي وبالرخيص، العون المادي، الأدبي، السياسي، الروحي، نريد من العرب أن يستفيدوا من هذا الدرس، أن يصطلحوا مع الله عز وجل ويغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم.
______________
نقلاً عن صحيفة الشرق القطرية